السبت، 18 يناير 2014

آخر أيام الاشعاع


 الحلقة السابعة والعشرون من رحلتي مع سرطان الثدي


أجر أقدامي ليوم آخر من العلاج الاشعاعي.. لمدة سبعة أسابيع آتي للمستشفى كل يوم لتلقي الاشعاع.. ولكن في الأيام الأخيرة صارت الأمور أصعب..وصرت أمقت هذا المشوارالصباحي البغيض.. فالجو يزداد برودة والعواصف الثلجية تهب كل حين وآخر.. والسير في الثلج والرياح مؤلم ومرهق.. أضف لذلك أن العلاج في الاسابيع الاخيرة قد أثر كثيرا على المنطقة المتعرضة للاشعاع.. فالتهبت وتقرحت وصارت حتى الثياب مؤلمة ان لامستها..ولكن لا يزال علي الاستمرار... والتعرض للمزيد والمزيد من العلاج الاشعاعي على منطقة احترق فيها جلدي تماما..أجر أقدامي وأحاول تجديد النية..


 حسنا.. أنا ذاهبة لطلب التداوي كما أمرنا الله.. حتى أكون قد أخذت بكل الأسباب ولم أدع شيئا أستطيع فعله.. أطلب التداوي لأقضي على ما بقي من المرض.. لأحيا.. وأعيد التفكير مرارا.. لماذا أريد أن أحيا..
لأكون لأبنائي خير أم... لأعينهم في مشوار الحياة الصعب وأضيئ لهم طريقهم ما استطعت.. لأكون نورا للناس من حولي ... ودفعة أمل لهم... لأكون لمرضاي الذين ضاقت بهم السبل خير طبيبة تشعر بألمهم وتفهمه بعمق بعد كل ما مررت به... لأفتح في الطب النفسي فتوحا تخدم بلادنا التي تعاني فقرا مدقعا في هذا المجال.. فقرا في الكم والكيف والموارد وحتى الفهم والتقبل...

حسنا.. جددت النية.. ووصل القطار لمحطة المستشفى.. وحان الوقت للمزيد من الاشعاع.. تستقبلني الممرضة ضاحكه.. اليوم الأخير ...ياااااااي....
-حقا.. اليوم هو اليوم الأخير.. وتنفرج أساريري بضحكه من القلب.. أخيييييرا... الحمد لله..
أكاد أقفز فرحا .. غيرت ملابسي بسرعة وجلست في غرفة الانتظار.. وإلى جواري سيدة مسنة أراها لأول مرة..
بادرتها بسعادة..
-اليوم آخر يوم لي !!! (لم تكن الفرحة تسعني فأردت مشاركة أي أحد)..
-حقا.. مبروك.. انا في ثالث اسبوع من أصل سبعه..
-ستكونين بخير.. وستمر بسرعة..
-أين تأخذين الاشعاع..
-مكان الثدي المستأصل .. وانت؟
-الدماغ.. هذا سيء أليس كذلك..لكني واثقة أن الله سيعتني بي.. وبك..
-نعم.. أعلم ذلك.. نحن في نعمة...
 وسكت برهة ولا أدري لم وجدت نفسي أقول لها..
-لدي في البيت طفلان.. أربعة سنوات.. وأربعة أشهر.. وابتسمت..
فردت بابتسامة واسعة وقالت..
-لا تقلقلي سيبقيك الله لهم لتربيهم.. أنا واثقة.. سأدعو لك.. وأنت.. أدع لي ..
وجاءت الممرضة لتناديني للجلسة...


ابتسمت لها وذهبت.. وبعد الاشعاع.. أعطتني الممرضة ورقة ملفوفة.. تساءلت ما هي فقالت ضاحكة.. شهادة التخرج!

فتحتها ووجدت فيها شهادة تخرج من الاشعاع.. بتوقيع كل الممرضات الذين رأيتهم خلال أسابيع العلاج وتمنياتهم لي بالشفاء..
كم أحببت هذه الهدية.. وكم حملت كثيرا من التفائل في طياتها..
وخرجت من المستشفى وقلبي ينبض بالحب لكل من يشاركني الانسانية و يتنفس معي نفس الهواء..

الجمعة، 17 يناير 2014

سحر الامتنان

الحلقة  السادسة والعشرون من رحلتي مع سرطان الثدي

في المستشفى لاجراء عملية بسيطة تحت تخدير موضعي لوضع قسطرة في الوريد يمكناعطاء الكيماوي عن طريقها..

كان من المفروض أن تكون العملية الساعة 11 صباحا وطلبوا مني الذهاب صائمة رغم أنها تحت تخدير موضعي.. فلم أدخل العمليات حتى الساعة الرابعة عصرا وأخبرتني الممرضة حينها أنه لم يكن عناك داع للصيام..

حاولت 3 ممرضات وضع ابرة المغذي وفشلن رقم علمي بأن عروقي ليست مستعصية لهذا الحد ولكنها قلة الخبرة..

تضاربت أقوال الممرضات ان كنت سأحتاج لمضاد عبر الوريد أم لا ولم يكن هناك طبيب لساعات ليجيب عن هذا السؤال..

أرسلوا لي طبيبا مقيما لا يعرف أي شيء عن العملية وكلما سألته سؤالا أعطاني أجوبة متضاربة حتى ذهب لسؤال الاستشاري الذي جاء بإجابات مختلفة تماما.. وخلال كل ذلك كنت أنا وزوجي نغلي حنقا من قلة الكفاءة وسوء الخدمة.. وراح زوجي يقول لي لماذا لا نترك العلاج في هذه المستشفى ونذهب لمستشفى أفضل فلدينا في بوسطن مستشفى من أفضل مستشفيات أمريكا.. فتساءلت ان كان هناك في أي مكان خدمة أفضل أم أن الخدمات الصحية في كل مكان تعاني المشاكل..

وفي ظل هذا الإحساس البغيض بالغيظ تذكرت فجأة أن هناك الكثيرين الذين يتمنون هذه الخدمات الصحية التي أتذمر منها.. هناك الكثيرين يموتون بغير أن يصلوا للطبيب رغم أن أمراضهم يسهل علاجها.. وهناك أباء يرون ابناءهم يموتون ولا يستطيعون أن يجلبوا لهم الدواء لضيق ذات اليد أو لحال البلاد المؤلم من الحرب وغياب الأمن



تذكرت ذلك فتغيرت نفسيتي فجأة من الحنق والغيظ إلى السعادة والامتنان.. الامتنان لله الذي من علي بخدمة صحية وان لم تبلغ الكمال..

تجربة فقد الشعر

الحلقة الخامسة و العشرون من رحلتي مع سرطان الثدي

-"ماما هل انت حزينة؟"

-"لا لماذا؟"

-"هل ستبكين الآن؟"

-"لا... لماذا؟!!"

-"لأن شعرك يسقط ثانية.."

ابتسمت دامعة.. متعجبة من ذاكرة ابني الذي لم يبلغ الأربعة سنوات في موضوع مرت عليه أشهر عدة... حين بدأت الكيماوي لأول مرة..

أبلغني الطبيب أني سأفقد شعري بعد أول جرعة..تألمت وحزنت.. ولكن بقي هناك أمل أن أكون محظوظة.. وأشذ عن القاعدة.. وذهبت لأول جلسة وسارت الأمور على ما يرام.. ومر على الجلسة 16 يوما كان شعري فيها في أحسن أحواله..حتى جاء اليوم السابع عشر.. لازلت أذكر ذلك تماما.. كنت أستحم.. ومررت بيدي على شعري ..فبدأ يتساقط بغزارة.. أصبت بم يشبه نوبة الهلع ورحت اتنفس بسرعة وأجهش بالبكاء..إذ وقع ما كنت أخشاه..

لم تكن الكمية التي سقطت حينها كبيرة ولكنها كانت إشارة لبداية النهاية لشعري الجميل..

كان إحساسا أليما بالعجز .. العجز عن إنقاذ شعري الذي طالما أحببته كما هو.. وندمت حينها اني لم أقم بحلاقته قبل أن يسقط كما قرأت في كثير من المنتديات لمريضات السرطان ولسان حالهن يقول "بيدي لا بيد عمرو"

بعدها وعلى مر أسبوع كانت كميات كبيرة من شعري تساقط هنا وهناك.. في اليوم الأول كان الحزن هو سيد الموقف..

 حينها كان ابني يراني باكية ويسألني.." لمَ انت حزينة؟"..

لم أحاول أن أخفي عنه ذلك..لأني شعرت أنه في كل ما أمر به..هذا امر يستطيع   استيعابة.. ولأني أردته أن يقدر مشاعر الآخرين وأن يعلم أن من حق كل انسان أن يحزن حتى وان كانت ماما القوية..

-          "أنا حزينة لأني أفقد شعري.. لكن لو أعطيتني حضنا كبيرا سأكون أفضل.."

في الأيام التي تليها تلاشى الحزن تماما.. وحل محله شعور عجيب بالامبالاة.. ماذا يعني بعض الشعر.. لا شيء.. سخافة.. وعندما صار رأسي نصف فارغ.. حل الشعور بالغيظ.. الغيظ من هذا الشعر الباقي الذي لا يريد أن يسقط مرة واحدة ليريحني..

كنت طوال تلك الفترة أرتدي البندانة طوال اليوم ومع كل وضوء أغلق الباب على نفسي حوالي النصف ساعة وأنا أحاول أن "أقطف" ما بقي من شعري لينتهي الاحساس بالخسارة.. العجز.. والحسرة..

 لم أسمح لأحد أن يرى رأسي..لكني كنت أري الشعر المتساقط لزوجي (ليتأهب للمنظر الجديد) وأقول ساخرة: " انظر لمحصول اليوم"..

ومر الأسبوع.. ولم يبق في رأسي شعر كثير.. وجاء زوجي من العمل يقول لي.."اشتقت لرؤية رأسك.. لماذا لا تنزعين هذه البندانة؟".. رفضت تماما.. لان الشعر بالنسبة لي لم يكن مجرد جمال للمرأة.. كان شعري هو كبريائي وكرامتي.. وشعرت أني بدونه سأبدو ضعيفة مريضة..وهو مالم أكن أتحمله..

عندها دخل زوجي للحمام وسمعت صوت ماكينة الحلاقة..

-"ماذا تفعل بالداخل"

-"مفاجأة"..

وخرج بعد دقائق برأس حليق..

-"لم فعلت ذلك.. لقد كنت تحب شعرك!!"

وخلال ثوان دخلت للحمام وأغلقت الباب ومررت بماكينة الحلاقة على ما بقي من شعري.. ثم استجمعت كبريائي.. وخرجت..

..وكانت على غير المتوقع دقائق من الضحك المتبادل..

-"أوبس.. ما أصغر رأسكِ!"

- "مع ذلك أنا في منتهى الذكاء.. أرأيت كيف يكون استغلال المساحات!! أما أنت فما أكبر رأسكَ!"

-"هو مليئ بكرة القدم والبلايستيشن واليوتيوب.. نحتاج لمساحات شاسعة!"

-ا"نظر لهذا النتوء في مؤخرة رأسك.. هذا مكان ال GPS.. لهذا أنت ممتاز في الخرائط والوصول للأماكن.."

وأخذنا نتضاحك وابننا يضحك خولنا وهو يقول..

-"ماما.. بابا.. ماذا فعلتما!!.."

وسألناه معا هل تريد أن نحلق رأسك كذلك؟.. فأجاب :"لا شكرا.."

ومن يومها لم أحتج لاخفاء رأسي أمام أسرتي .. ولم احتج لارتداء الشعر المستعار أو البندانة واستطعت التمسك بكبريائي وقوتي وإن كان رأسي حليقا..

البادجر وأمهات اليوم

الحلقة  الرابعة والعشرون من رحلتي مع سرطان الثدي

أشاهد مع ابني فيلما وثائقيا عن حيوان أفريقي اسمه Honey Badger(يترجم للعربية بلفيف العسل!).

لقطة عجيبة.. الأم تحمل ابنها  الرضيع معها في كل مكان وهي تبحث عن صيد.. ولا تستطيع تركه في "البيت" لأنه ليس هناك بيت آمن في السفانا الأفريقية.. وخلال الرحلة .. يمرض الصغير و يكاد يموت.. واضح من أنفاسه المتباعدة وضعفه الشديد أنه لن يعيش طويلا.. لكنها تستمر في حمله معها في كل مكان لأنها تدرك أنها لو تركته فسيكون فريسة لمئات الحيوانات الجائعة التي تنتظر صغيرا مريضا كوجبة سهلة.. تبقى تحمله حتى تواجه ذكرا من نفس فصيلتها يحاول التهام ابنها.. فتدخل معه في معركة حامية تكاد تفقد فيها حياتها لأجل ابنها الميت لا محالة.. وينتصر الذكر القوي.. ويركض بعيدا بابنها ليأكله ويتركها متخمة بالجراح..

هي ليست غبية.. هي تعرف أنه ميت لا محالة..وحتى إن عاش فقريبا يكبر وينفصل عنها بل ويصبح منافسا لها في صيدها.. فلم  تخاطر بحياتها لأجله.؟؟...

 ***

في غرفة انتظار العلاج الاشعاعي  بالمستشفى أقرء في احدى المجلات قصة فتاة في الثانية والعشرين.. اصيبت بسرطان المبيض.. ونصحها الأطباء بعملية استئصال المبيضين مع الكيماوي .. رفضت ان تستأصل المبيضين..: لم ترد أن تخسر فرصتها في الإنجاب.. واستئصلت المبيض المصاب فحسب ثم بدأت رحلة العلاج الكماوي الشاقة.. حتى شفيت..

 ولكن بعد  خمس سنين.. وفي زيارة عادية للطبيب.. اكتشفت عودة السرطان لمبيضها المتبقي.. وهو الآن ورم ضخم بحجم 10 انشات.. ورم يهدد حياتها,, وينذر بعودة لنفس الطريق المؤلم طريق الجراحة والكيماوي و كوابيس الموت.. لكن كل ذلك لم يكن أكبر همها.. كان أكبر همها هو..هل يعقل أنني سأحرم تماما من أن يكون لي طفل.. وقررت أن تجازف.. قررت أن تؤجل العملية العاجلة لاستصال الورم حتى تجد طبيب إخصاب يستطيع أن يقوم بالمعمة الصعبة.. مهمة الحصول على عدد من بويضاتها لتجمدها في بنك البويضات إلى أجل غير مسمى.. رأى أطباء الأورام أن ما تقوم به جنون.. ومخاطرة بحياتها لغير سبب.. فجني البويضات للتجميد يستغرق وقتا ويعطل العلاج و يسمح للورم بالانتشار.. لكن شعور الأمومة عندها طغى على كل شيء.. "أريد أن أشعر أن السرطان لم يسلبني كل شيء..على الأقل أعرف الآن أن هناك في الثلاجة تنتظرني 10 بويضات لحين أنهي العلاج وأجد الشريك المناسب ليكون لي طفل من صلبي.."

أي عاطفة عجيبة هذه التي تجعل المرء يخاطر بحياته لاجل ابن لم يأت للحياة بعد.. بل لم يصبح حتى جنينا بعد..  لمجرد مشروع ابن كامن في خلية واحدة في مبيضها..

وأنظر حولي فأرى عجبا وأسمع عجبا.. أرى فكرا جديدا... غريبا على الانسانية.. وغريبا حتى على عالم الحيوان.." سأرمي بالاولاد لأبيهم.. فغدا يكبرون ويذهبون له وينسونني.. فلم أضيع شبابي معهم الآن؟!!"

"هؤلاء الاولاد لن ينفعوني غدا.. غدا يصبح كل همهم الأصحاب والخرجات ثم الزوجات.. وظيفتي هي ما سيبقى لي.. وهي وحدها الأمان..ونجاحي الوظيفي يأتي أولا"..

أعلم أن حياتنا اليوم قد تغيرت وصارت جد صعبة.. ولكنها لن تكون أصعب من حياة أنثى لفيف العسل التي قررت أن تضحي بنفسها للدفاع عن جرو سيموت بعد ساعات ولن ينفعها في أي حال..